في "زمن مكسور" لمنذر جوابرة: طبقات الأسر الفلسطيني

 مليحة مسلماني *

في سياق حديثهم عن تجربة الاعتقال، كثيرًا ما يذكر معظم الأسرى الفلسطينيين، المحرَّرين منهم والذين ما زالوا رهن الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي، أن كل شيء قد تغير بشكل يبدو صادمًا أو غير طبيعي بالنسبة لهم، فالأطفال قد أصبحوا شبانًا أو آباء وأمهات لأطفال جدد، وكذلك تضاريس الأمكنة التي تتغير بشكل كبير بالنسبة لهم، ومجمل أسلوب الحياة في الخارج، أي خارج الأسر. هذه العلاقة بين الأسير في عزلته القسرية والزمن هي محور اشتغال الفنان الفلسطيني منذر جوابرة في معرضه "زمن مكسور"، والذي عُرض، مؤخراً، في "غاليري وَن" في رام الله.

يقترب منذر جوابرة في أعمال "زمن مكسور" من ثلاثة مفاهيم تشكل في مجموعها أُسساً في عالم الأسير: المكان، والزمان، والعزلة القسرية التي تعتبر العامل الأكثر سيطرة على الذات الأسيرة ضمن بُعديْ الزمان والمكان، بل هي صاحبة السيادة عليهما، إذ تفرض العزلة طبيعة كلٍّ من الزمان والمكان وطريقة الإحساس بهما؛ لا تمكن المشابهة بين إحساس شخص بالزمان والمكان، في حال أُجبر على العزلة في هذا المكان لفترة زمنية معينة، بإحساس شخص آخر اختار تلك العزلة بمحض إرادته في ذات المكان وبنفس المقدار من الزمان. ومع ذلك فإن منذر جوابرة يدخل كمبدعٍ تجربةَ العزلة والعزل، ضمن مكان محدد ولمدة خمسة وأربعين يوماً، ليقترب من جوّانية الأسير الفلسطيني. ساعده على ذلك مشاركته من قبل في تجربة سينمائية للمخرج رائد أندوني حول السجن وظروف الاعتقال. لذا يمكن القول إن الفنان قد اختار العزلة كممثل أراد أن يحيا دوره بصدق ليؤديه على أكمل وجه، غير أن الأداء النهائي في زمن مكسور هو أعمال بصرية لا سينمائية أو مسرحية، وإن احتوت في بصريّتها على عناصر سينمائية وأدائية مسرحيّة.


مرحلة المُلثَّم

ليس بعيدًا عن منذر جوابرة أن يقترب بصريًا من عالم الأسير الفلسطيني، فقد شكلت الانتفاضة الأولى ومظاهرها وفلسفتها الاجتماعية والنضالية جوهرًا في هوية وتكوين الفنّان الذاتي والسياسي والثقافي، إذ اندلعت الانتفاضة وهو على وشك الدخول في مرحلة المراهقة التي تمثل بداية النضج وتشكل الوعي الثقافي، وتُعدّ مرحلة "الملثم" التي أنتج خلالها جوابرة العديد من الأعمال الفنية التي تصور الملثم والمقاوِم الفلسطيني خلال انتفاضة الحجارة المثال الأبرز على عمق تأثير تجربة الانتفاضة على وعي الفنان وتكوينه الهوياتي. 

مِن الملثّمِ إلى الأسير انتقالٌ وتطورٌ بصريّ في تجربة منذر جوابرة يذهب إلى ما بعد مظاهر النضال والصمود وإلى ما وراء أشكال وشخوص المقاومة، ويستهدف عمق وجوّانية الذات المناضلة سواء كانت ذات المقاوِم أو الأسير أو الجريح، أو الفلسطيني عمومًا الذي يعيش حالة حصار وعزلة، سواء كان هذا الفلسطيني في غزة، أو في القدس المحاصرة أيضًا، أو في الضفة الغربية التي تحولت بفعل الجدار والحواجز إلى سجن كبير، أو في فلسطين المحتلة عام 1948 حيث يعيش الفلسطينيون عزلة نسبية مزدوجة، أو في مخيمات الشتات التي يلاحق الفلسطيني فيها شعور دائم بالعزلة عن محيطه، وإن كانت تلك عزلة جزئية، تمثلت في التمسك بالمخيم وبهوية اللجوء كمعادِل لمطلب العودة، إذ لا مطلب بالعودة دون أن تقابله هوية تتشكل في المنفى.

يمكن القول إن أعمال منذر جوابرة نجحت، إلى حد جيد، بالاقتراب من مفهوم العزلة ضمن مستويات ثلاثة: المستوى الخاص بالأسير الفلسطيني حيث تصل العزلة إلى ذروة قسوتها على الذات، والمستوى الفلسطيني العام إذ يلاحق الفلسطينيي أينما وجد سواء في فلسطين التاريخية أو في الشتات شعور بالعزلة عن الوطن، بعضه أو كله، وعن محيطه العربي والعالمي، والمستوى الأخير هو العزلة كمفهوم وشعور إنسانيّ كونيّ قد يواجهه أي إنسان في أي بقعة مكانية ولفترة زمنية محددة طالت أم قصرت. لذا ينطلق جوابرة في معالجة العزلة، بالعلاقة مع بعديْ الزمان والمكان، من المحلية الفلسطينية الخاصة بالأسير الفلسطيني، إلى الكونية الأوسع والأشمل، وتلك إحدى مهمّات الفن وتطلعاته، وهي القدرة على امتلاك لغة كونية تخاطب الوجدان الإنساني في كل زمان ومكان.


نسيج بصري ومضموني

يوظف جوابرة وسائط متعددة للتعبير عن رؤيته لعالم الأسير الفلسطيني، فمعرضه "زمن مكسور" يشمل اللوحات وأعمالاً إنشائية وأخرى طباعية بالإضافة إلى عمل فيديو مدته 73 دقيقة. يبدو للوهلة الأولى أن هذا التنوع في الوسائط في معرض واحد وكأنه ازدحام بصريّ وتقنيّ قد يثقل الفكرة أو على الأقل يشتّتها، فالفن يقوم على الاختزال في التقنية والبصرية، ويسعى إلى توحيد عناصر التعبير المرئي، على صعيديْ الشكل والمضمون على السواء. غير أن التعدد هنا قد أفاد المضمون إلى حد كبير، وفصّله وعمّقه، فقد تكاملت أجزاء المعرض ووسائطه المختلفة لتبدو كلها نسيجاً بصرياً مضمونياً متناغماً يطوف حول مسألة العزلة كقلق وجودي يلاحق الأسير الفلسطيني خاصة، والإنسان عامة، بل يُلاحظ أن هناك تدرّجاً في عمق الفكرة "العزلة"، والوعي بها، من وسيط بصريّ إلى آخر، ويتسّع مع هذا التدرج إدراك المتلقّي بمفهوم العزلة وعلاقتها مع الزمن.

كانت البداية في "زمن مكسور" إنجاز الفنان ست لوحات يصوّر كل منها حالات مختلفة ومحاولات يقوم بها الأسير لكسر العزلة والروتين اليومي المفروض في الحياة الاعتقالية في السجون الإسرائيلية، والتي تتخللها محاولات متواصلة تقوم بها إدارة السجون للقمع والقهر، حيث تهدف تلك المحاولات إلى تجريد المعتقل من كل وسائل الدفاع وتفريغ الإنسان الفلسطيني الأسير من محتواه القيمي والنضالي؛ في اللوحات قفزٌ أو طيران أو محاولة نوم، شخص على أرجوحة وآخر يحمل "البُقجة" في استعدادٍ، أو انتظارٍ، للرحيل، أو الانتقال، أو الخروج من العزلة. يصوّر كلّ عمل من تلك اللوحات شخصاً واحداً في حالة هي محاولة للخروج، وكل الشخوص معصوبو الأعين غالباً، والعصبة لا تشير فقط إلى هوية الشخص موضوع اللوحة كأسير، بل تؤدي دور المعادِل البصري للعزلة، فالعين هي النافذة على العالم وتغطيتها تعني الانغلاق والظلام وعدم الرؤية وبالتالي انعدام سبل التفاعل مع العالم الخارجي.

الخيوط التي تغطي اللوحات تفتح الباب على تعدّد تأويلات العمل الفني، إذ تمكن قراءتها في اتجاهات عدّة؛ الخيوط تشكل قضبان الأسر التي يظهر من خلفها الأسير، وهي أيضًا خيوط الزمن الذي يحاول كسر إيقاعه الرتيب والثقيل بمحاولات للحياة والبقاء والصمود والتماسك داخل الأسر، كما أن تلك الخيوط قد تزعج الناظر إلى اللوحة، إذ هي تحجب الرؤية الكاملة لما هو خلفها من شخوص وحالات وتكوينات وألوان وعلاقات، وبذلك يخلق العمل الرغبة لدى المشاهد في محاولة إزالة تلك الخيوط بهدف اكتمال رؤيته إلى اللوحة، والحقيقة أن اللوحة، هنا بالخيوط الكثيفة التي تحجب الرؤية الكاملة لها، تشكل مرآةً للصورة التي يحتفظ بها من هم خارج السجن حول من هم داخله، أي أنها تواجه المحيط ــ العام ــ الخارج، بما يحتفظ به من تصورات حول الأسير، وتخبره؛ أي اللوحة، بأن رؤيته لعالم الأسر هي رؤية مشوّشة، إذ طالما نُظِر إلى الأسير الفلسطيني "كمناضل" و"بطل صامد وراء القضبان" يواجه محاولات السجّان عزله وتفريغه من محتواه الإنساني والقيمي والوطني، وهذا هو الراسخ في الثقافة الوطنية الفلسطينية التي وإن تخللتها محاولات إبداعية ومؤسساتية للاقتراب من إنسانية وذاتيّة الأسير الفلسطيني إلا أن الوعي الجمعي ما زال يحتفظ بصورة نمطية شِعارية حول الأسير. 



الأسير كشبح

في مجموعة لوحات أخرى من "زمن مكسور" يصبح للخيط دور أكبر وأعمق إذ يصبح جزءًا راسخًا من اللوحة، فالخيوط الكثيفة تشكل أرضية اللوحة وخلفيتها ومساحتها التي يرسم عليها الفنان هوية ذاتية للأسير المغطى رأسه بكيس في بعض اللوحات، فهو قيد التحقيق أو المواجهة أو الصراخ نتيجة التعذيب الجسدي أو النفسي الناتج عن العزل القسري. إن اقتحام الخيوط عمق اللوحة هو تعبير عن محاولة اللوحة ذاتها كتمثيل بصري نحو الغوص في العلاقة الرياضية الوجدانية الطردية التي تربط بين مجموع لحظات الزمن ــ خطّ الزمن ــ والوجدان المتعلق به في حالة العزلة. فكلما تكررت وتراكمت اللحظات الزمنية تعمّق وتراكم الشعور بالعزلة وبقسوتها، ويصبح كل من الأسير والخيط ــ خطّ الزمن، وحدة واحدة لا ينفصل جُزآها، بل يتماهى كلاهما مع الآخر، ما تؤكده مجموعة أعمال إنشائية أخرى مصنوعة من خيوطِ صوفٍ سوداء وحمراء وبيضاء، تشكل الخيوط في تلك الأعمال شخصية الأسير المعزول الحاضر كشَبَح، فالشَبَحِيّة مستوى من الوجود ولكنه وجود أثيري غير كامل وغير مُثْبَت، والسجن، في الثقافة العربية وفي الوعي الإنساني عامة، يردافُ القبر، فمن يُحبس فيه يصبح خارج المكان، وخارج الزمان الذي تسير فيه أحداث الحياة ضمن مسارها الطبيعي، وهو يكون بذلك خارج الحياة.

"زمن مكسور" من خيوط هشّة تقطعها أية محاولة بسيطة للشدّ، لكنها، أي تلك الخيوط، تشكّل في مجموعها حضورًا ثقيلًا وإن بدا شَبَحيًّا، هو حضور الغياب المقترن هو الآخر بالعزلة، فالعزلة ابتعادٌ عن الحياة وفراقٌ لمن هم أحبّةٌ فيها، وتصبح العلاقة بين المعزول وبين من ينتظرون نهاية زمن عزله هي منتهى الحضور في ثِقَل الغياب، فكل من الطرفين يستحضر الآخر وجدانيًا وبصريًّا، غير أن الأسير، موضوع العزلة، هو الطرف الأكثر قدرة على الحضور والاستحضار على حدّ السواء؛ إنه يصنع من الخيوط إطارات لصور الأبناء الذين يكبرون وهم في عزلته القسرية، ويبدع بها مجسمّات لقبة الصخرة والأقصى، ولوحات تصور السماء والبيت والشجر والجبال، ويراكم في المقابل خيوط الزمن التي أولها لحظة الاعتقال، وآخرها لحظة الإفراج المنتظَرة، وما بينهما زمنٌ مكسور، إذ لا يمكن أن يكون للزمن في السجن وقعٌ على الوجدان غير ثقيل، فهو آسرٌ لذات الأسير، وهو كذلك الزمن المأسور في سجنٍ أو زنزانةٍ أو في عزلٍ انفراديّ ومحكوم بنقطة بداية قد يمتد وصولها إلى النهاية بمسافة زمنية مقدارها "الحكم المؤبّد". ذلك هو جوهر "زمن مكسور" لمنذر جوابرة، والذي يتماهى بصرياً ليس فقط مع علاقة الأسير الفلسطيني بالخيط، بل أيضاً مع العلاقة بين الخيط وخطّ الزمن في حياة الأسير الفلسطيني وذاته، والذي وإن كان زمناً مكسوراً إلا أنه يكسر انكساره بالمواجهة ويسير وفق ما تشاء العزلة بخطوات حثيثة نحو البقاء وإثبات الذات.


* كاتبة فلسطينية


نشر لأول مرة في موقع العربي الجديد ـ ضفة ثالثة.

تم عمل هذا الموقع بواسطة